فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه فَيَقول رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}
اعلم أن قوله: {فَأَمَّا الإنسان} متعلق بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] كأنه قيل: إنه تعالى لبالمرصاد في الآخرة، فلا يريد إلا السعي للآخرة فأما الإنسان فإنه لا يهمه إلا الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإن وجد الراحة في الدنيا يقول: ربي أكرمني، وإن لم يجد هذه الراحة يقول: ربي أهانني، ونظيره قوله تعالى في صفة الكفار: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون} [الروم: 7] وقال: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ} [الحج: 11] وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أن سعادة الدنيا وشقاوتها في مقابلة ما في الآخرة من السعادة والشقاوة كالقطرة في البحر، فالمتنعم في الدنيا لو كان شقياً في الآخرة فذاك التنعم ليس بسعادة، والمتألم المحتاج في الدنيا لو كان سعيداً في الآخرة فذاك ليس بإهانة ولا شقاوة، إذ المتنعم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالسعادة والكرامة، والمتألم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالشقاوة والهوان.
وثانيها: أن حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام في الدنيا لا يدل على الاستحقاق فإنه تعالى كثيراً ما يوسع على العصاة والكفرة، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وإما يحكم المصلحة، وإما على سبيل الاستدراج والمكر، وقد يضيق على الصديقين لأضداد ما ذكرنا، فلا ينبغي للعبد أن يظن أن ذلك لمجازاة.
وثالثها: أن المتنعم لا ينبغي أن يغفل عن العاقبة، فالأمور بخواتيمها، والفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر، فلا ينبغي أن يقضي على نفسه بالإهانة مطلقا.
ورابعها: أن النفس قد ألفت هذه المحسوسات، فمتى حصلت هذه المشتهيات واللذات صعب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها، أما إذا لم يحصل للإنسان شيء من هذه المحسوسات رجعت شاءت أم أبت إلى الله، واشتغلت بعبودية الله فكان وجدان الدنيا سبباً للحرمان من الله، فكيف يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا، مع أن ذلك أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات.
وخامسها: أن كثرة الممارسة سبب لتأكد المحبة، وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق، فكل من كان وجدانه للدنيا أكثر وأدوم كانت محبته لها أشد، فكان تألمه بمفارقتها عند الموت أشد، والذي بالضد فبالضد، فإذن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت، وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت، فكيف يقال: إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة؟.
واعلم أن هذه الوجوه إنما تصح مع القول بإثبات البعث روحانياً كان أو جسمانياً، فأما من ينكر البعث من جميع الوجوه فلا يستقيم على قوله شيء من هذه الوجوه، بل يلزمه القطع بأن وجدان الدنيا هو السعادة وفقدانها هو الشقاوة، ولكن فيه دقيقة أخرى وهي أنه ربما كان وجدان الدنيا الكثيرة سبباً للقتل والنهب والوقوع في أنواع العذاب، فربما كان الحرمان سبباً لبقاء السلامة، فعلى هذا التقدير لا يجوز أيضًا لمنكر البعث من جميع الوجوه أن يقضي على صاحب الدنيا بالسعادة، وعلى فاقدها بالهوان، فربما ينكشف له أن الحال بعد ذلك بالضد.
وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول:
قوله: {فَأَمَّا الإنسان} المراد منه شخصين معين أو الجنس؟ الجواب: فيه قولان: الأول: أن المراد منه شخصين معين، فروي عن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، وقال الكلبي: هو أبي بن خلف، وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف والقول.
الثاني: أن المراد من كان موصوفاً بهذا الوصف وهو الكافر الجاحد ليوم الجزاء.
السؤال.
الثاني:
كيف سمي بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟
الجواب: لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع، فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
السؤال.
الثالث:
لما قال: {فَأَكْرَمَهُ} فقد صحح أنه أكرمه.
وأثبت ذلك ثم إنه لما حكى عنه أنه قال: {رَبّي أَكْرَمَنِ} ذمه عليه فكيف الجمع بينهما؟ والجواب: لأن كلمة الإنكار هي قوله: {كَلاَّ} فلم لا يجوز أن يقال: إنها مختصة بقوله: {رَبّي أَهَانَنِ} سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً ولكن فيه وجوه ثلاثة أحدها: أنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام.
الثاني: أن نعم الله تعالى كانت حاصلة قبل وجدان المال، وهي نعمة سلامة البدن والعقل والدين، فلما لم يعترف بالنعمة إلا عند وجدان المال، علمنا أنه ليس غرضه من ذلك شكر نعمة الله، بل التصلف بالدنيا والتكثر بالأموال والأولاد.
الثالث: أن تصلفه بنعمة الدنيا وإعراضه عن ذكر نعمة الآخرة يدل على كونه منكراً للبعث، فلا جرم استحق الذم على ما حكى الله تعالى ذلك، فقال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قال مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} إلى قوله: {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} [الكهف: 35- 37].
السؤال الرابع:
لم قال في القسم الأول: {إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ} وفي القسم.
الثاني: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ} فذكر الأول بالفاء والثاني بالواو؟ والجواب: لأن رحمة الله سابقة على غضبه وابتلاءه بالنعم سابق على ابتلائه بإنزال الآلام، فالفاء تدل على كثرة ذلك القسم وقبله الثاني على ما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
السؤال الخامس:
لما قال في القسم الأول: {فَأَكْرَمَهُ فَيَقول رَبّي أَكْرَمَنِ} يجب أن يقول في القسم.
الثاني: فأهانه فيقول: {رَبّي أَهَانَنِ} لكنه لم يقل ذلك والجواب: لأنه في قوله: {أَكْرَمَنِ} صادق وفي قوله: {أَهَانَنِ} غير صادق فهو ظن قلة الدنيا وتقتيرها إهانة، وهذا جهل واعتقاد فاسد، فكيف يحكي الله سبحانه ذلك عنه.
السؤال السادس:
ما معنى قوله: {فقدر عليه رزقه}؟
الجواب: ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة، وقرئ فقدر على التخفيف وبالتشديد أي قتر، و{أكرمن} و{أهانن} بسكون النون في الوقف فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة.
{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)}
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الشبهة قال: {كَلاَّ} وهو ردع للإنسان عن تلك المقالة، قال ابن عباس: المعنى لم ابتله بالغنى لكرامته على، ولم أبتله بالفقر لهوانه على، بل ذلك إما على مذهب أهل السنة، فمن محض القضاء أو القدر والمشيئة، والحكم الذي تنزه عن التعليل بالعلل، وإما على مذهب المعتزلة فبسبب مصالح خفية لا يطلع عليها إلا هو، فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه، ثم إنه تعالى لما حكى من أقوالهم تلك الشبهة فكأنه قال: بل لهم فعل هو شر من هذا القول، وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم، فقال: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أبو عمرو: {يكرمون} وما بعده بالياء المنقوطة من تحت، وذلك أنه لما تقدم ذكر الإنسان، وكان يراد به الجنس والكثرة، وهو على لفظة الغيبة حمل يكرمون ويحبون عليه، ومن قرأ بالتاء فالتقدير قل لهم يا محمد ذلك.
المسألة الثانية:
قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه.
واعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه:
أحدها: ترك بره، وإليه الإشارة بقوله: {وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين}.
والثاني: دفعه عن حقه الثابت له في الميراث وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكلا لَّمّاً}.
والثالث: أخذ ماله منه وإليه الإشارة بقوله: {وَتُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً} أي تأخذون أموال اليتامى وتضمونها إلى أموالكم.
أما قوله: {ولا تحضون على طعام المسكين} قال مقاتل: ولا تطعمون مسكيناً، والمعنى لا تأمرون بإطعامه كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الحاقة: 34 33] ومن قرأ {ولا تحاضون} أراد تتحاضون فحذف تاء تتفاعلون، والمعنى: لا يحض بعضكم بعضاً وفي قراءة ابن مسعود: {وَلاَ تَحَاضُّونَ} بضم التاء من المحاضة.
أما قوله: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكلا لَّمّاً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قالوا: أصل التراث وراث، والتاء تبدل من الواو المضمومة نحو تجاه ووجاه من واجهت.
المسألة الثانية:
قال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه كتيبة ملمومة وحجر ملموم، والآكل يلم الثريد فيجعله لقماً ثم يأكله ويقال لممت ما على الخوان ألمه أي أكلته أجمع، فمعنى اللم في اللغة الجمع، وأما التفسير ففيه وجوه:
أحدها: قال الواحدي والمفسرون: يقولون في قوله: {أَكلا لَّمّاً} أي شديداً وهو حل معنى وليس بتفسير، وتفسيره أن اللم مصدر جعل نعتاً للأكل، والمراد به الفاعل أي آكلا لامّاً أي جائعاً كأنهم يستوعبونه بالأكل، قال الزجاج: كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافاً وبداراً، فقال الله: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكلا لَّمّاً} أي تراث اليتامى لما أي تلمون جميعه، وقال الحسن: أي يأكلون نصيبهم ونصيب صاحبهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم.
وثانيها: أن المال الذي يبقى من الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل أي يضم البعض إلى البعض ويأخذ الكل ويأكله.
وثالثها: قال صاحب (الكشاف): ويجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا لما واسعاً، جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعله الوراث البطالون.
أما قوله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً} فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال: جم الشيء يجم جموماً يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر، والمعنى: ويحبون المال حبًّا كثيراً شديداً، فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان} يعني الكافر.
قال ابن عباس: يريد عُتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة.
وقيل: أُمية بن خلف.
وقيل: أبيّ بن خلف.
{إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} أي امتحنه واختبره بالنعمة.
و(ما): زائدة صلة.
{فَأَكْرَمَهُ} بالمال.
{ونعمه} بما أوسع عليه.
{فَيَقول ربي أَكْرَمَنِ} فيفرح بذلك ولا يحمده.
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه} أي امتحنه بالفقر واختبره.
{فَقدر} أي ضيق {عَلَيْهِ رِزْقَهُ} على مقدار البُلْغة.
{فَيَقول ربي أَهَانَنِ} أي أولاني هوانا.
وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقِلته.
فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه، المؤدّي إلى حظ الآخرة، وإن وسَّع عليه في الدنيا حمِده وشكره.
قلت: الآيتان صفة كل كافر.
وكثير من المسلمين يظنّ أن ما أعطاه الله لكرامته وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحقَّ هذا لم يعطنيه الله.
وكذا إن قَتَّر عليه يظنّ أن ذلك لهوانه على الله.
وقراءة العامة {فقدر} مخففة الدال.
وقرأ ابن عامر مشدّداً، وهما لغتان.
والاختيار التخفيف؛ لقوله: {وَمَن قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7].
قال أبو عمرو: و(قدر) أي قُتِّر.
و(قدر) مشدّداً: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال: {ربّي أهانن}.
وقرأ أهل الحَرَمين وأبو عمرو {ربّيَ} بفتح الياء في الموضعين.
وأسكن الباقون.
وأثبت البَزِّي وابن مُحَيصِن ويعقوب الياء من {أكرمنِ}، و{أهاننِ} في الحالين؛ لأنها اسم فلا تحذف.
وأثبتها المدنِيون في الوصل دون الوقف، اتباعاً للمصحف.
وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها؛ لأنها رأس آية، وحذفها في الوقف لخط المصحف.
الباقون بحذفها، لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة ألا يخالف خط المصحف؛ لأنه إجماع الصحابة.
قوله تعالى: {كَلاَّ} ردّ؛ أي ليس الأمر كما يُظَنّ، فليس الغِنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي.
وقال الفراء: {كلا} في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمدُ الله عز وجل على الغنى والفقر.
وفي الحديث: «يقول الله عز وجل: كلا إني لا أكرِم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهِين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي».
قوله تعالى: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسْرافاً وبِدَاراً أَنْ يَكْبُروا.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يُكْرِمون}، و{يَحُضُّون} و{يأكلون}، و{يُحِبُّونَ} بالياء؛ لأنه تقدّم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع.
الباقون بالتاء في الأربعة، على الخطاب والمواجهة؛ كأنه قال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.
وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله كما ذكرنا.
قال مقاتل: نزلت في قُدامة بن مظعون وكان يتيماً في حجر أُمية بن خَلَف.
{وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين} أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم.
وقرأ الكوفيون {ولا تَحَاضُّونَ} بفتح التاء والحاء والألف.
أي يَحُضُّ بعضهم بعضاً.
وأصله تتحاضُّون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها.
وهو اختيار أبي عُبيد.
ورُوِي عن إبراهيم والشَّيْزَرِيّ عن الكسائي والسُّلَمِيّ {تُحَاضُّون} بضم التاء، وهو تُفاعِلون من الحضّ، وهو الحث.
{وَتَأْكُلُونَ التراث} أي ميراث اليتامى.
وأصله الوُراث من ورِثت، فأبدلوا الواو تاء؛ كما قالوا في تُجاه وتُخمَة وتُكأَة وتُؤَدة ونحو ذلك.
وقد تقدّم.
{أَكلا لَّمّاً} أي شديداً؛ قاله السُّدّيّ.
قيل: {لما}: جمعا؛ من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعاً؛ قاله الحسن وأبو عُبيدة.
وأصل اللَّمّ في كلام العرب: الجمع؛ يقال: لَممت الشيء ألُمُّه لَمًّا: إذا جمعته، ومنه يقال: لمّ الله شعثه، أَي جمع ما تفرّق من أموره.
قال النابغة:
ولَسْتَ بِمُسْتَبِقٍ أَخاً لا تَلُمُّه ** على شَعَثٍ أَيُّ الرجال المُهَذَّبُ

ومنه قولهم: إن دارك لَمُومَة؛ أي تَلُمّ الناس وتَرُبُّهم وتجمعهم.
وقال المِرناق الطائيُّ يمدح علقمة بن سيف:
لأَحبَّنِي حُبّ الصبيّ ولَمَّنِي ** لَمَّ الهُدِيّ إلى الكرِيم الماجِد

وقال الليث: اللمّ الجمع الشديد؛ ومنه حجر ملموم، وكتِيبة ملمومة.
فالآكل يَلُم الثريد، فيجمعه لُقَماً ثم يأكله.
وقال مجاهد.
يَسفُّه سَفّاً: وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره.
قال الحُطيئة:
إذا كانَ لما يُتْبع الذمَّ ربَّه ** فلا قدّسَ الرحمنُ تلك الطواحِنا

يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم.
وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألَمّ بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب.
قال: وكان أهل الشرك لا يورّثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع مِيراثِهم، وتراثهم مع تُراثِهم.
وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فَيلُمّ في الأكل بين حرامه وحلاله.
ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفِر بالمال سَهْلاً مَهْلاً، من غير أن يَعرَق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعاً، جامعاً بين المشتهيات، من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوُرّاث البطالون.
{وَتُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً} أي كثيراً، حلاله وحرامه.
والجمّ الكثير.
يقال: جمّ الشيء يَجُمّ جُموماً، فهو جَمٌّ وجامٌّ.
ومنه جمّ الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر.
وقال الشاعر:
إن تغفِرِ اللَّهُمَّ تغفِرْ جَمَّا ** وأَيُّ عبدٍ لك لا أَلمَّا

والجَمَّة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه.
والجَموم: البئر الكثيرة الماء.
والجُمومُ (بالضم): المصدر؛ يقال: جمّ الماء يجِم جموماً: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها. اهـ.